.ContactForm{display: none!important;}

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

"عبارات ملهمة" : قراءة وجدانية في قصص جواد العوالي



بقلم: ذ. الشهبي أحمد / المغرب

في زمن غابت فيه المعاني خلف ركام العبارات المستهلكة، يطل جواد العوالي من بين الركام حاملاً بين يديه مجموعة قصصية لا تشبه غيرها، عنوانها "عبارات ملهمة"، لكن مضمونها أوسع من مجرد إلهام. لا شيء في هذا العمل يشير إلى محاولة افتعال التأثير، بل كل شيء فيه ينبض بالحياة، يهمس في أذن القارئ لا ليعلمه شيئاً، بل ليوقظه من داخله. الكاتب لا يصرخ، لا يستعرض، لا يزايد؛ بل يكتب كما لو أنه ينقّب في أرواحنا عن تلك الشقوق الصغيرة التي لم نكن نعلم بوجودها.


هذا العمل لا يعوّل على الإثارة، ولا يتوسل العاطفة الرخيصة، بل يتكئ على تفاصيل الإنسان المنسيّ، على ذلك النبض الخافت الذي يكاد يضيع وسط ضجيج اليومي، فيعيده إلى الواجهة بكلمة، بعبارة، بلحظة. كل قصة هي مرآة، وكل مرآة مكسورة على طريقتها، لكن الكاتب لا يُجمّع الشظايا ليصنع منها تمثالًا، بل يدعها كما هي، يعلم أن الجمال الحقيقي في التصدّع لا في التلميع.


في كل قصة، يخلق العوالي عالماً صغيراً، محكوماً بتفصيل بسيط: عبارة. لكنه لا يقدمها كخاتمة، بل كشرارة. أبطاله في الغالب أفراد عاديون: امرأة أرملة، شاب في طور الضياع، تلميذ حائر، موظف مغمور، شيخ في عزلته… لكن هذا "العادي" ليس إلا واجهة لهشاشة إنسانية تبحث عن سند، عن كلمة تصالحها مع نفسها، مع وجودها المتشظي. من هنا، تنبع القوة التعبيرية للعمل: ليس في حبكاته المعقدة ولا في مواقف صادمة، بل في عودة الإنسان إلى ذاته عبر العبارة، تلك التي تكون أحياناً همساً وأحياناً صفعة.


القارئ لا يشعر بأنه يقرأ قصة، بل كأنه يتتبع مسار شفاء. هناك شيء أشبه بجلسة علاجية صامتة، يتدرج فيها التوتر من الداخل لا من الخارج. الأحداث بسيطة: مقابلة، رسالة، لقاء، تأمل عابر في حافلة… لكن من تحت هذه القشرة اليومية يتسرب شعور متصاعد يربك القارئ، يدفعه للتوقف وإعادة قراءة سطر لم يكن يتوقع أن يُلامسه بذلك العمق. ليست هناك خطب رنانة، بل جمل قصيرة تُلقى كمن يلقي حجراً صغيراً في بحيرة، لكنه يُحدث دوائر تمتد إلى آخر مدى.


من الناحية السردية، اختار العوالي لغة أقرب ما تكون إلى "الكتابة النظيفة"؛ خالية من الحشو، لا تتوسل المجاز المفرط، ولا تهادن في انتقاء العبارة. وهذا ما يجعلها ملهمة: ليست الكلمات ما يُلهم بل الصدق في استعمالها. هناك رصانة في البناء وتواضع في الصوت السردي، لا يُغريك الكاتب بإظهار عبقريته، بل يدعوك لأن تكتشفها أنت. حتى النهايات، في الغالب، لا تكون مغلقة ولا منمّقة، وإنما مفتوحة على سؤال، على حسرة أحياناً، أو على ابتسامة مبطّنة بالألم.


ولعل من أبرز ما يُحسب للمجموعة هو قدرتها على أن تظل مشعة رغم بساطتها، وعلى أن تخلق من الكلمة العادية شرارة غير عادية. إنها ليست مجموعة قصصية فقط، بل هي نوع من "التدوين الوجداني" لتجارب التحول التي يمر بها الإنسان حين يلتقط في لحظة ما عبارة تغيّر مجرى أيامه، أو على الأقل تمنحه سبباً إضافياً لئلا يستسلم.


ما يفعله العوالي هنا يُقارب ما تفعله القصيدة حين تصادف قارئها في لحظة انكسار. الفرق أن هذه "القصائد" مكتوبة في شكل سردي، تُحاكي الحياة اليومية، لكنها تمارس طقس الإنقاذ الداخلي بفعالية نادرة. هي قصص كتبت لكي تُقرأ أكثر من مرة، لا لأن لغتها معقدة، بل لأن أثرها يتغير مع كل قراءة، تبعاً للحالة النفسية للقارئ.


"عبارات ملهمة" ليست فقط مجموعة أدبية، بل هي أيضا شهادة على أن الأدب ما زال قادراً على التغيير، ليس بالضجيج، بل بالهمس الحاد، ذلك الذي يعرف متى يتكلم، وماذا يقول. وربما هنا يكمن سحر هذه المجموعة: في أنها لم تُكتب لتُعجب، بل لتلمس، وفي زمن قلّ فيه اللمس، تُصبح الكتابة التي تفعل ذلك، أكثر من مجرد أدب… تُصبح عزاءً.

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع