في مشهدٍ نادر، انكشفت الأضواءُ عن مواجهةٍ لاذعةٍ بين رئيسين في قاعةٍ اعتادت استيعابَ لغةِ المصافحاتِ الدبلوماسيةِ المُتقَنة. لم تكن مجردَ لحظةِ توترٍ عابرة، بل حواراً مُشتعلًا يكشفُ عن شرخٍ عميقٍ في رؤى سياسيةٍ تمسُّ مصائرَ شعوبٍ وأمنًا عالميًا. هذا السجالُ العلني بين ترامب وزيلينسكي، الذي انتقلَ من حديثٍ عن اتفاقٍ حول المعادن الحيوية إلى تبادلِ اتهاماتٍ مُتبادَلةٍ بالتقصيرِ و"المجازفة بحياة الملايين"، يطرحُ أسئلةً جوهريةً عن طبيعةِ الحواراتِ التي تدورُ خلف الأبواب المغلقة، وعن الأسبابِ التي تدفعُ ببعضِ الخلافات إلى الواجهة، رغم كلِّ البروتوكولاتِ المُتبعةِ لإخفائها.
السياسةُ الدوليةُ، في جوهرها، ليست ساحةً للانسجامِ الأبدي، بل مسرحًا تتصادمُ فيه المصالحُ والاستراتيجياتُ بعنفٍ أحيانًا. لكنَّ ما يُلفت في هذه الحادثةِ تحديدًا هو تجاوزُها الحدودَ غيرَ المرئيةِ التي تفصلُ بين ما يُقالُ علنًا وما يُدارُ في الخفاء. فالاتهاماتُ المتبادَلةُ بين الرجلين، والتي طالت شرعيةَ الدعمِ الأمريكي وأولوياتِ الدبلوماسيةِ الأوكرانية، لم تكن مجردَ تبادلٍ للانتقادات، بل تحولت إلى إعلانٍ صريحٍ عن اختلافٍ استراتيجيٍ في التعاملِ مع الحربِ الأوكرانيةِ ومخاطرِ تصعيدها. ترامب، الذي يعيدُ إنتاجَ خطابِه السابقِ عن "الهدرِ الأمريكي" في دعمِ أوكرانيا، يبدو وكأنه يستخدمُ المنصةَ العلنيةَ لتوجيهِ رسالةٍ مزدوجة: للأوكرانيين بأن دعمَ واشنطن ليس مفتوحًا دون مقابل، ولناخبيه المحتملين بأنه لا يزالُ حارسًا لـ"أمريكا أولًا". في المقابل، يظهرُ زيلينسكي، الذي اعتادَ على خطابِ الشكرِ الدبلوماسي، وكأنه قررَ كسرَ القاعدةِ غيرِ المعلنةِ بضرورةِ تجنبِ إحراجِ الحلفاءِ علنًا، ربما لإدراكه أن الصراعَ على الرأي العامِ الغربيِ أصبحَ جزءًا من معركته العسكرية.
لكنَّ السؤالَ الأعمقَ هنا: هل هذه المشادةُ الاستثنائيةُ تعكسُ واقعًا دبلوماسيًا مألوفًا خلف الكاميرات؟ الإجابةُ تكمنُ في فهمِ الفرقِ بين "الخلاف" و"إدارةِ الخلاف". ففي الغرفِ المغلقة، تُدارُ النقاشاتُ الحادةُ بعيدًا عن عدساتِ الإعلام، ليس لأن القادةَ يتفقون دائمًا، بل لأنَّ الفوضى العلنيةَ في السياسةِ الخارجيةِ تُعطي الخصومَ أوراقًا مجانيةً لزعزعةِ التحالفات. خلافاتٌ مثل تلك التي شهدناها بين أوروبا والولايات المتحدة حول غزو العراق عام 2003، أو التوتراتِ الصامتةِ بين الحلفاءِ حول التعاملِ مع الصين، نادرًا ما تصلُ إلى مستوى الاتهاماتِ الشخصيةِ المتبادَلةِ أمام العامة. حتى في ذروةِ الخلافات، تظلُّ لغةُ البياناتِ المشتركةِ حريصةً على توحيدِ السردية. لكنَّ ما حدثَ بين ترامب وزيلينسكي يختلفُ كليًا: لقد تحولَ الحوارُ إلى مسرحٍ لإظهارِ الانقسام، وكأن كلا الطرفينِ قررا أن تكلفةَ الصمتِ أصبحت أعلى من تكلفةِ الكشفِ عن الخلاف.
هذا الانزياحُ نحو العلنيةِ قد يُفسرُ بتحولاتٍ أوسعَ في بيئةِ السياسةِ العالمية. ففي عصرِ الشعبويةِ وانتشارِ منصاتِ التواصلِ السريع، لم يعدِ القادةُ يخافون من كسرِ التابوهاتِ الدبلوماسيةِ إذا كان ذلك يخدمُ شعبيتهم الداخلية. ترامب نفسه، الذي بنى جزءًا من سياسته على فضحِ "الخفايا القذرة" للدبلوماسيةِ التقليدية، يدركُ أن مشهدَ المواجهةِ مع زيلينسكي قد يُعيدُ تصويرَهُ كـ"بطلٍ" يواجهُ حلفاءَ مستفيدين. أما زيلينسكي، فربما رأى في المواجهةِ العلنيةِ فرصةً لتعويضِ تراجعِ الاهتمامِ العالمي بأوكرانيا، أو حتى لاختبارِ مدى استعدادِ الإدارةِ الأمريكيةِ القادمةِ (في حال فوز ترامب) لاستخدامِ الدعمِ كأداةِ مساومة.
ومع ذلك، فإنَّ تسييسَ الخلافِ العلنيّ يحملُ مخاطرَ جسيمةً تتجاوزُ الإحراجَ المؤقت. فعندما يتحولُ الحلفاءُ إلى خصومٍ على الشاشات، فإن ذلك لا يضعفُ الموقفَ التفاوضيَّ لهم فحسب، بل يمنحُ الخصومَ فرصةً لاستغلالِ الشرخِ العلني. روسيا، على سبيل المثال، قد تستخدمُ هذه الحادثةَ لتبريرِ سرديتها عن "الغربِ المنقسمِ"، بينما قد تترددُ دولٌ أخرى في الانخراطِ بتحالفاتٍ مع أطرافٍ تُعلنُ خلافاتها بطريقةٍ دراماتيكية. الأكثرُ إثارةً للقلق هو أن مثلَ هذه الحواراتِ العلنيةِ قد تنشر فكرةَ أن الدبلوماسيةَ هي مسابقةُ صراخٍ بدلًا من كونها فنَّ إدارةِ التناقضات.
بينما تُظهرُ هذه الواقعةُ أن الخلافاتِ الحادةَ بين الحلفاءِ هي جزءٌ طبيعيٌ من تفاعلاتِ القوةِ العالمية، إلا أن تسريبَها إلى العلنِ يشي بتحولٍ خطيرٍ في ثقافةِ الحوارِ الدولي. السؤالُ ليس عمَّا إذا كانت مشاداتٌ أشدُّ حدّةً تدورُ خلف الأبواب — فذلك مُتوقع — بل عمَّا إذا كنا نستطيعُ الحفاظَ على الحدِّ الأدنى من التماسكِ العلنيِّ الذي يمنعُ الدبلوماسيةَ من التحولِ إلى مسرحٍ للعبثِ السياسي. قد تكونُ المواجهاتُ العلنيةُ مغريةً لصناعِ السياسةِ الباحثين عن تأييدٍ شعبي، لكنها، في المدى البعيد، تهددُ بتحويلِ التحالفاتِ إلى مجردِ شراكاتٍ هشّةٍ قائمةٍ على المصالحِ الظرفية، لا على الثقةِ الاستراتيجية.
مقالات الرأي
بقلم الشهبي أحمد
#الدبلوماسية_بلا_أقنعة #تحالفات_هشّة #الخلافات_الدبلوماسية #ترامب_زيلينسكي #السياسة_العالمية
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.