في ظلّ ظاهرة تكدّس المصلين في المساجد خلال شهر رمضان، يثار جدلٌ متكررٌ يُعبّر عن استياء بعضهم من حضورٍ مفاجئٍ لوجوه لم يعتادوا رؤيتها في الصلوات اليومية. يتحوّل هذا الاستياء أحيانًا إلى سؤالٍ استنكاريٍّ يختزلُ تعقيدات العلاقة بين الإنسان والدين في صورةٍ بسيطةٍ تفتقرُ إلى التعمّق في فهم طبائع الإيمان ومساحاته الواسعة. فالحُكم على الآخرين بناءً على حضورهم المؤقت في المساجد، أو غيابهم المؤقت عنها، يُختزِلُ روح الدين إلى مجرد طقوسٍ شكلية، ويُغفلُ جوهره الذي يتعلّقُ بالقلوب قبل الجوارح.
لا يُمكن إنكار أن رمضان يحملُ بُعدًا زمنيًا استثنائيًا في الوعي الجمعي للمسلمين، فهو ليس شهرًا للصوم فحسب، بل هو فضاءٌ روحيٌ مكثّفٌ تُعاد فيه تشكيل العلاقة مع الذات والآخرين والله. هذا البُعد الزمني يمنحُ فرصةً للكثيرين لمراجعة مساراتهم، واستعادة ما فاتهم من شعائر، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنهم "منقطعون" عن الدين خارج هذا الشهر. فالإيمان ليس خطًّا مستقيمًا يسيرُ باتجاه واحد، بل هو أشبه بمدٍّ وجزرٍ تحكمه ظروف الحياة وتقلّباتها. قد يجدُ الإنسان نفسه في شهر رمضان أكثر قربًا من المسجد لأسبابٍ متشابكة؛ ربما لأن الذاكرة الدينية تُذكّره بقدسية الشهر، أو لأن الجوّ العام يُشعره بالأمان الروحي، أو لأن الظروف العملية تسمح له بالالتزام أكثر. في كل الأحوال، هذا الانزياح المؤقت نحو المسجد لا يحتاج إلى تبرير، فالمساجد بيوتٌ مفتوحةٌ للجميع، وليست حكرًا على من يُمارسون الطقوس اليومية بانتظام.
اللافت في السؤال الاستنكاري "أين كانوا قبل رمضان؟" أنه ينطوي على مفارقةٍ تناقضُ مبدأ الرحمة الذي يُفترض أن يتحلى به المُنتقدون أنفسهم. فإذا كان الدين يدعو إلى التعاطف مع أخطاء الآخرين، وفتح أبواب التوبة أمامهم، فكيف يُلامُ مَن يسعى إلى استغلال شهرٍ كاملٍ لتعويض ما فاته؟ أليس من الأجدر أن يُنظر إلى هذا الحماس المؤقت كخطوةٍ إيجابيةٍ قد تكون بدايةً لالتزامٍ أعمق؟ هنا تظهر إشكاليةُ تحويل الدين إلى مساحةٍ للتنافس على "حصص التقوى"، حيث يُصبح بعض الملتزمين حراسًا لبوابات الإيمان، يُصدرون أحكامًا على دخول الآخرين وخروجهم، وكأن علاقة الإنسان بربه محسوبةٌ بنظام الحضور والانصراف!
من زاويةٍ أخرى، يُكشف هذا النقدُ عن فهمٍ سطحيٍّ لطبيعة المساجد ودورها. فالمسجد ليس نادٍ خاصًا لأعضائه الدائمين، بل هو مكانٌ عامٌ يستوعب كلَّ من يطرق بابه، سواء أتى إليه كل يوم أو مرةً في العمر. قد يكون حضورُ البعض في رمضان تعبيرًا عن حاجةٍ نفسيةٍ أو روحيةٍ لم تُلبَّ في أماكن أخرى، أو ربما محاولةً للهروب من ضغوط الحياة تحت سقفٍ يُذكّرهم بالأمل. فبدلًا من تحويل المسجد إلى ساحةٍ للمحاسبة، ينبغي أن يظلّ رمضان فرصةً لتعزيز التسامح المجتمعي، وتذكير الجميع بأن الرحمة الإلهية لا تُقيّم الناسَ بموازين الحسابات البشرية.
يُجسّد ازدحام المساجد في رمضان ظاهرةً صحيةً تعكس حيويةَ الدين في النفوس، وقدرته على استعادةِ مكانته كملاذٍ للإنسان في كل الأوقات. النقدُ الموجه لهذا الحماسِ الديني المؤقت ليس سوى تعبيرٍ عن ثقافةٍ استعلائيةٍ تتناسى أن الإيمان مسارٌ شخصيٌ لا يُمكن قياسه بمعاييرَ خارجية. فكما أن رمضان يُطهّر الأجساد بالصوم، فهو أيضًا فرصةٌ لتطهير النفوس من الأحكام المسبقة، وتذكيرها بأن الله يتسع لكلِّ العباد، باختلاف درجات إيمانهم، وتفاصيل مساراتهم.
وختام مقالي اقول فيه " اتركوا الخلق للخالق "
بقلم الشهبي أحمد
#مقالات_الرأي
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.