.ContactForm{display: none!important;}

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

"مأزق 'ماشي شغلي': الفردانية كمرضٍ والجماعة كحلمٍ منسيّ"







في شوارع المدن المغربية، تتردد عبارة "ماشي شغلي" كأنها نشيدٌ يوميٌّ يعلن انسحاب الفرد من دائرة الهمّ الجماعي إلى فضاء اللامبالاة. هذه العبارة التي تبدو بسيطةً في ظاهرها تحمل في أحشائها تشخيصاً لمرضٍ اجتماعيٍّ معقّد: تفكُّك النسيج المجتمعي، وانهيار فكرة "نحن" لصالح "أنا" متضخمةٍ تجثم على صدر القيم التضامنية. إنها ليست مجرد ردّة فعل عفوية أمام مشاكل الآخرين، بل مؤشرٌ على تحوُّلٍ جذريٍّ في العقد الاجتماعي غير المكتوب الذي يربط الأفراد ببعضهم.


اللافت في هذه الظاهرة أنها لا تنبع من فراغ، بل هي ابنة شرعية لسياقٍ تاريخيٍّ واجتماعيٍّ متشابك. فبينما كانت المجتمعات التقليدية تُبنى على التكافل العفوي – حيث الجار ملاذٌ قبل الأهل، والمصيبة الفردية تُقاس بمشاركة الجماعة – جاءت التحولات الحديثة لتحوِّل الفرد إلى جزيرةٍ معزولة. العولمة، والتمدين السريع، وانهيار البنى التقليدية، كلها عوامل غذّت نزعة الفردانية، لكنها في السياق المغربي تحوّلت إلى سلاحٍ ذي حدين: بينما منحت الفردَ مساحةً أكبر للتحرر من التابوهات، قطعت عنه في الوقت ذاته حبال التواصل العضوي مع محيطه. وهنا بالضبط تكمن المفارقة؛ فـ"ماشي شغلي" ليست رفضاً للتدخل في خصوصيات الآخرين بقدر ما هي إعلانٌ عن موت الفضول الإنساني، ذلك الفضول الذي كان يُنتجُ – ولو بشكل فطري – شيئاً من التعاطف.


على المستوى النفسي، تُشبه هذه العبارة "مخدِّراً" جماعياً. فكلما كرر الفرد أنها "ليست مشكلته"، كلما صدّقَ عقله الباطن أن حدود مسؤوليته تنتهي عند جدار بيته. لكن هذا الوهم لا يدوم طويلاً؛ فالمجتمع ليس مجموعةَ جزرٍ متباعدة، بل هو نظامٌ معقّدٌ من التأثيرات المتبادلة. عندما يتجاهل الجارُ صوتَ شجارٍ عنيفٍ في البيت المجاور تحت ذريعة "ماشي شغلي"، فهو لا يرفض تحمّل مسؤولية الأخلاق فحسب، بل يشارك – ولو سلبيّاً – في تمكين العنف. هذه اللامبالاة ليست حياداً، بل هي انحيازٌ خفيٌّ للوضع القائم، وهي تُنتجُ شرخاً في الذات الجماعية قبل أن تُدمِّرَ العلاقات الظاهرة.


الأكثر إيلاماً أن "ماشي شغلي" تتسلل حتى إلى دوائر المفترض أنها مُحصَّنة ضد الفردانية. ففي الأحياء الشعبية التي كانت تُعتبر حصناً للقيم التضامنية، أصبحت العبارةُ رديفاً للاستسلام أمام تداعيات الفقر والبطالة. أما في الطبقات الوسطى، حيث يُفترض أن يكون الوعي الاجتماعي أكثر رسوخاً، تتحول العبارة إلى درعٍ واقٍ من "إزعاج" الالتزام. حتى المؤسسات التربوية والدينية، التي كان يُنتظر منها أن تكون حاجزاً ضد هذا التفتيت، أصبحت عاجزةً عن إنتاج خطابٍ بديلٍ يقاوم جاذبية الأنانية المُعولمة.


لكنّ تحليل الظاهرة لا يكتمل دون مساءلة السياق الأوسع. فالدولة الحديثة، عبر أجهزتها البيروقراطية، ساهمت – عن غير قصد – في ترسيخ الفردانية عندما حوّلت المواطن إلى رقمٍ في ملفٍّ إداريّ، وحصرت مفهوم "المسؤولية" في دفع الضرائب وانتظار الخدمات. كما أن فشل السياسات العمومية في تحقيق العدالة الاجتماعية ولَّدَ شعوراً عاماً بأن التضامن مع الآخرين هو ترفٌ لا طاقةَ له بمجتمع منهكٍ بالبحث عن لقمة العيش. هنا تتحول "ماشي شغلي" من شعار فردي إلى نتاجٍ منطقيٍّ لغياب العقد الاجتماعي الفعلي بين الدولة والمواطن.


ومع ذلك، فإن استسلاماً من نوعٍ ما أن نختزل الظاهرة في حتميةٍ اجتماعية. فالتاريخ المغربي يحمل في ذاكرته أمثلةً على مقاومة الجماعة للتفكك، حتى في أحلك الظروف. السؤال الجوهري: كيف نعيد تشغيل شيفرة التضامن الموروثة دون أن نقع في فخ الحنين الرومانسي للماضي؟ الجواب ربما يكمن في إعادة تعريف "المسؤولية" نفسها. فبدلاً من اختزالها في الأعمال الخيرية الظرفية، ينبغي بناؤها كقيمةٍ يوميةٍ تتجلى في أبسط التفاصيل: في انتقاد من يلقون النفايات أمام بيوت الجيران، في رفض الصمت على انتهاك كرامة إنسان في الشارع، في تحويل الفضول الإنساني من تدخُّلٍ في الخصوصيات إلى اهتمامٍ مصحوبٍ باحترام الحدود.


التحول المطلوب ليس شعاراتٍ تُرفع، بل ممارساتٌ تُغذّيها مؤسساتٌ قادرةٌ على تجسيد العدل. فما فائدة تعليم التضامن في المدارس إذا كان الطفل يرى أباه يُهانُ كل صباحٍ على رأس عملٍ لا يحترم كرامته؟ كيف نطلب من المواطن أن يهتمّ بشؤون المجتمع وهو يرى المال العام يُنهبُ دون محاسبة؟ إن إحياء روح "الجماعة" يحتاج إلى جسرٍ بين الأخلاق الفردية والعدالة النظامية، حيث يصبح الاهتمام بالآخرين ليس فضيلةً اختيارية، بل انعكاساً لواقعٍ تُحترم فيه الحقوق وتُفرضُ الواجبات على الجميع.


 "ماشي شغلي" ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي مرآةٌ تعكس أزمةَ انتماءٍ في زمنِ التحولات الجارفة. مواجهتها لن تكون بتوبيخ الأفراد على "أنانيتهم"، بل بخلق سياقٍ يجعل الاهتمامَ بالآخرين خياراً ممكناً – بل ومُجدياً – في واقعٍ يجدُ فيه الفردُ نفسه جزءاً من شبكةٍ إنسانيةٍ يحميه انتماؤه إليها، كما يحميها التزامُه بها.


بقلم الشهبي أحمد 

تازة ـ مغراوة في 10مارس 2025


#مقالات_الرأي #المسؤولية #ماشي_شغلي #الفردانية_والجماعة #التضامن_المفقود #أزمة_الانتماء #المجتمع_المغربي #التكافل_الاجتماعي #العقد_الاجتماعي

تعليقات

التنقل السريع