يقول خالد النبواني : "المثقف الحقيقي ليس ذاك الذي يُشعركِ بعظمته وأنت في حضرته، بل هو ذاك الذي يستطيع أن يُظهر لك كم أنت عظيم كلما جالسته. ليس الفيلسوف الحقيقي هو من يُعلمك ما هي الفلسفة، بل هو من يُساعدُك على التفلسف. ليس الفيلسوف مُحاضراً يُلقي عليك محاضرة ويلقنك المعرفة أبداً لا، بل إن عملهُ يُشبه عمل القابلة التي لا تُعطي المرأة طفلاً من خارجها، وإنما تساعدها على إخراج طفلها الذي في أحشائها إلى النور لذا كان سُقراط يُشبّه نفسه بالقابلة..."
المثقف الحقيقي والفيلسوف النابع من جوهر الفكر ليس من يتخذ من نفسه مركزًا للتبجيل، بل هو من يبتعد عن الظهور بمظهر الشخص الذي يملك مفاتيح المعرفة وحده، بل يشعل في الآخرين جذوة التفكير والنقد، ويُبصرهم بعوالم من الفهم قد تكون غائبة عنهم. خالد النبواني في قوله "المثقف الحقيقي ليس ذاك الذي يُشعرك بعظمته وأنت في حضرته، بل هو ذاك الذي يستطيع أن يُظهر لك كم أنت عظيم كلما جالسته" يطرح مفهومًا جديدًا للمثقف، مختلفًا عن الصورة التقليدية التي تربط المثقف بالهيبة والرفعة. فالمثقف في نظره ليس من يفرض سلطته الفكرية على الآخرين، بل من يُحيي فيهم ما هو موجود أصلاً، ويمنحهم فرصة لاكتشاف عظمة الذات.
النظرة إلى المثقف تكون عادةً على أنه الشخص الذي يمتلك المعرفة الكثيرة والفائقة، الذي يُحاط بهالة من الاحترام، حيث يصبح مركزًا للتوجيه والتصحيح، لكن الحقيقة أن المثقف هو من يستطيع أن يجعل الآخرين يكتشفون عوالمهم الداخلية ويعلمهم كيف يسيرون في رحلة التفكير بأنفسهم. وفي هذا السياق، يشير النبواني إلى أن "المثقف الحقيقي" هو من يزرع فينا الإيمان بأننا جميعاً قادرون على التفوق والتفكير العميق، فلا حاجة لأن نعتمد على عقول الآخرين، بل على عقولنا التي تكبر وتزدهر عندما نتعلم كيف نبحث، ونُحلل، ونفهم، ونشعر بالقيمة الذاتية.
وفيما يخص الفيلسوف، يقدم النبواني صورة أخرى مغايرة تماماً لما اعتدنا عليه. فالفيزيائي ليس بالضرورة هو من يشرح لنا الحقيقة فلسفيًا فقط، بل هو من يساهم في تفتيح أفقنا الفكري، فيجعلنا نتساءل ونبحث عن إجابات. الفيلسوف لا يُلقننا المعرفة مثل أستاذ ملزم بتوزيع الحصص العلمية، بل هو مرشد يساعدنا على اكتشاف أنفسنا وأفكارنا. في هذا المعنى، يبدو الفيلسوف مثل القابلة التي تساعد المرأة الحامل على إخراج طفلها إلى الحياة، لا أن تعطيها الطفل من خارجها. هنا يلتقي الفكر الفلسفي بالواقعية، فتُصبح الفلسفة عملية عميقة تنتج من الشخص نفسه ولا تقتصر على توجيه خارجي.
الفيلسوف الحقيقي هو من يساعدنا على التفلسف، على التمسك بالحيرة والشك والتساؤل كأدوات أساسية لفهم الواقع. وأوضح مثال على ذلك كان سُقراط، الذي كان يصف نفسه بالقابلة الفكرية، حين كان يُساعد الناس على توليد أفكارهم الخاصة، وتشكيل آراءهم بدلاً من مجرد إعطائهم حلولًا جاهزة. فالسؤال، في نظره، هو الطريق نحو المعرفة، ولولا ذلك لظل العقل البشري غارقًا في إجابات مبتسرة دون تساؤلات تحفزه.
إن المجتمع الذي يعنى بالتفكير النقدي والحر، هو ذلك الذي يعيد الاعتبار للمثقف والفيلسوف القادرين على خلق حوار فكري، على تجاوز الشروحات التقليدية، ليزرعوا في الناس بذور التأمل والتفكير الحر. المثقف الحق هو الذي يجعل كل فرد يشعر أنه قادر على الوصول إلى الحقيقة بقدراته الخاصة، ويمنحه الأدوات التي تمكّنه من التفكير خارج القيود المألوفة.
المثقف الذي يرغب في تقديم المعرفة لن يكون من يتحدث عن عظمتهم الشخصية، بل من يُحيي العظمة في الآخر. الفيلسوف ليس من يملأ أذهاننا بمعلومات، بل من يزرع فينا بذرة التساؤل والبحث. ومن هنا نجد أن الطريق نحو المعرفة لا يمر عبر مسار مباشر من تلقي المعلومات، بل عبر رحلة من اكتشاف الذات، والتساؤل المستمر، وممارسة الفكر النقدي.
لقد انتهت الفترات التي كان فيها المثقف يفرض ذاته كـ "سلطة" معرفية، ليبدأ دور جديد له في تحويل كل فرد إلى مثقف من نوع آخر.
بقلم زغوشي مريم
مقالات الرأي
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.