" أسطورة "، و قراءة لرواية "الحب في زمن الكوليرا "
تقول الأسطورة :
إن طائراً صغيراً يُغني مرة واحدة في حياته و حين يُغني يكون غناؤه أكثر عُذوبة من غناء أي مخلوق على هذه الأرض ...فمُنذ اللحظة التي يَقوى فيها على الطيران يهجر عشه ليبحث عن غصن شائك و لا يهدأ حتى يجده و عندما يعثر عليه يغرز في صدره إحدى أشواكه و يبدأ غناء باذخ الجمال ..و لا يتوقف عن الغناء حتى ينزف آخر قطرة من دمه و تنتهي انشودته لتبدأ أسطورة طائر الشوك ..
أحد طيور الشوك المحزنة هذه هو "فلورينتينو اريثا" بطل رواية (الحب في زمن الكوليرا) الذي أمضى ثلاث و خمسين سنة ينتظر المرأة التي أحبها مذ كان في الثامنة عشرة من عمره حين كان ينتظرها في ظل أشجار اللوز ليراقب بقلب مكبوت مرورها بزيها المدرسي ذي الخطوط الزرقاء و جرابها ذي الرباط الذي يصل حتى الركبتين و ضفيرتها المتدلية على ظهرها حتى الخصر ..
كانت رؤية الصبية هي أقصى ما يريد لكن لياليه المضطربة جعلته يكتب لها رسالة قرأتها هي بدافع الفضول و كتبها هو بأصابع روحه ...و في انتظار ردها فَقد العاشق الرغبة في الكلام و الأكل و لم يعد يستطيع النوم و بدأ يعاني من إغماءات مفاجئة مترافقة مع قيء أخضر و رغم أنهم كانوا في زمن الكوليرا إلا أن الطبيب قال إن هذه الأعراض ليست أعراض كوليرا بل أعراض حب سيتحكم بمصير هذا العاشق الشاب حتى يشيخ ..
و لأن الحياة لها ألاعيبها الخاصة و الملتوية و رغم أن "فلورنتينو" ليس نموذج الرجل الذي كانت ستختاره "فيرمينا داثا" إلا أنه أثار فضولها بحيث جعلها تبادله الرسائل ثم أوراق أزهار مجففة و أجنحة فراشات و ريش عصافير فاتنة ..
و بعد مرور سنتين من الرسائل المحمومة وافقت على الزواج منه شريطة ألا يجبرها على أكل الباذنجان ..!
لكنها ذات يوم و في أحد الأسواق سمعت صوته قريباً منها يهمس بالاسم الذي أطلقه عليها : (ربة متوجة) و حين التفتت إليه رأت عينيه الجامدتين و وجهه الأزرق الضارب إلى السواد و شفتيه المتصلبتين .. فلم تشعر بهيجان الحب بل شعرت بخيبة الأمل فالبعد رسم لها صورة أخرى كاملة لا تشبه بأي شكل من الأشكال صورة هذا الرجل الهزيل البائس ...و بحركة واحدة من يدها محته من حياتها و قالت له : أرجوك انس كل شيء..
و في مساء ذلك اليوم أرسلت له الرسالة الأخيرة :"عندما رأيتك اليوم أدركت أن ما بيننا ليس إلا وهماً.." و أرفقت بالرسالة كل رسائله و أشعاره و أزهار كاميليلاه المجففة و طلبت أن يعيد إليها الرسائل و الهدايا و ضفيرتها و هي في الخامسة عشرة التي كان يعلقها في علبة زجاجية كما لو كانت أيقونة مقدسة ... و رغم تلك القسوة التي يعجز الشيطان عن القيام بمثلها انتظرها العاشق الهزيل البائس خمسين سنة حتى شاخت و شاخ زوجها و توفي ... ليعود إليها يوم دفن زوجها و يقدم لها عرض حبه الأبدي الذي لم يصدأ و لم يصبح شيخاً مثلهما .. "فلورينتينو أريثا" عاش عمراً كاملاً ينتظر أن يعيش ..
تبادل الحب العابر مع العابرات ذاك الحب الذي يعطي شيئاً يشبه الحب لكنه يفتقد إلى رائحة الحب النفاذة التي يخلّفها وراءه ..لم تكن له امرأة و لا بيت فيه مدفأة و طفل ... ليس لأنه لم يلتق بامرأة تستحق الحب بل لأنه وضع عصابة على قلبه و أمره ألا يرى إلا حلمه القديم البائس مثله ..
و هكذا عاش لأجل المرأة التي أحب بينما عاشت هي كامرأة حياة لأجل أشياء كثيرة لا تمت إليه بصلة عاشت لأجل زوجها و يومياتهما معاً و لأجل أطفالها و تفاصيل حياتها الكاملة بعذوبتها و مراراتها ..لكنها لم تعش لأجله أبدأ ..
لا أعرف لماذا لم أفرح حين رأيت صورة تلك المرأة السبعينية التي تفوح منها رائحة عجوز عرض "فلورينتينو" بالحب الأبدي .
و لا أعرف لماذا حين قرأت هذه الرواية قبل خمس سنوات و قبل اسابيع اعتقدت أن هذه الخاتمة هي الخاتمة الأجمل و اليوم بعد مرور كل هذه الأيام و أنا أعيد قراءتها أغرق في الحزن و أفكر بأن هذا ليس حُباً... قد يكون كوليرا لكنه ليس حُباً ..
ألم يقل "ماركيز" أن أعراض الحب تشبه أعراض الكوليرا .. وأن "هذا الحب موجود في كل زمان ويشتد زخما عندما يقترب من الموت ".

تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.