بقلم الناقد والروائي : الشهبي أحمد
ها هو السؤال الذي لا تهدأ له الأرض، ولا تستكين له النفوس: هل الوطن حقاً مكان نلجأ إليه بأمان، أم أنه فكرة متحركة، كابوس يستحيل الإمساك به، وجرح لا يندمل؟ في رواية مراد الضفري "الوطن ليس هنا"، يكسر الكاتب كل محظورات الحكي عن الانتماء، ليغوص في متاهات الهوية والاغتراب والنزاع بين القلب والعقل، فتتحول فكرة الوطن من جغرافيا جامدة إلى كابوس نفسي مهيمن على حياة الإنسان. هنا، لا نرى الوطن كملاذ، بل كقيد، ليس فقط على الجسد بل على الروح، حيث تصبح أسئلة الانتماء أشد قسوة من أي جدار أو حدود سياسية. هل يمكن أن يكون الحب متمرداً على السياسة؟ وهل تقبل النفس أن تنتمي لمكان يرفضها؟ هذا هو الحضور الثوري للرواية التي لا تقدم راحة للقارئ، بل تهزّه لتسقط معه الأقنعة وتنكشف الحقيقة: الوطن، في زمننا، ليس هنا... وربما لا يكون في أي مكان.
في زمن تتداخل فيه الأحلام بالواقع، وتتشابك خيوط الهوية مع نسيج الفقدان، تأتي رواية مراد الضفري "الوطن ليس هنا" كرحلة أدبية تأخذ القارئ إلى أعماق النفس البشرية، حيث الوطن ليس مجرد تراب أو حدود مرسومة على خريطة، بل هو سؤال ينبض في القلب، يتشكل من الذكريات، الألم، الحب، والحنين الممزوج بالرفض. هذا العمل، الذي ينسج خيوطه بحرفية تجمع بين الشاعرية والفلسفة، لا يقدم للقارئ إجابات مريحة، بل يدعوه إلى التيه في متاهة الأسئلة الوجودية، حيث الانتماء يصطدم بالاغتراب، والحلم يتصارع مع الواقع، والذات تتأرجح بين الرغبة في العثور على موطن آمن والإدراك المؤلم بأن الوطن قد يكون مجرد وهم بعيد المنال.
تدور الحكاية حول طارق، شاب مغربي يحمل في صدره أحلاماً أكبر من الواقع الذي يعيشه، أحلاماً مشبعة بروح قومية عربية تحلق في سماء الطوباوية، لكنها تصطدم بحواجز القمع السياسي، الاعتقالات، والنضال الجامعي الذي يتلون بالخيبة. الوطن بالنسبة لطارق ليس أرضاً يطأها، بل شبحاً يطارده، سجناً نفسياً يحاصره بجدران من التناقضات. إنه المكان الذي يولد فيه الحلم ويموت فيه، حيث تتزاحم صور الماضي المجيد مع واقع الحاضر القاسي، وحيث يتحول الانتماء إلى عبء يثقل كاهل الروح. من خلال طارق، يرسم الضفري لوحة إنسانية معاصرة، يعكس فيها صراع جيل بأكمله يبحث عن معنى الوطن في عالم تتفكك فيه المعاني، وتتشوه فيه الهويات تحت وطأة القيود الاجتماعية والسياسية.
لكن الرواية لا تكتفي بتشريح أزمة طارق مع الوطن، بل تمضي إلى أبعد من ذلك، حيث يتداخل الحب كقوة مدمرة وبناءة في آن واحد. علاقة طارق بأماليا، الشابة الإسرائيلية، ليست مجرد قصة عاطفية عابرة، بل هي استعارة عميقة للصراع بين الذات والآخر، بين القناعات السياسية والانجذاب الإنساني. هذا الحب، الذي ينمو في ظل تناقضات الهوية والولاء، يصبح مرآة تعكس التوترات الداخلية لشخصية طارق، بل ولجيل كامل يجد نفسه ممزقاً بين المبادئ والعواطف. أماليا ليست مجرد حبيبة، بل هي رمز للممنوع، للآخر الذي يتحدى حدود الوطن كفكرة جامدة. من خلال هذه العلاقة، يطرح الضفري سؤالاً شائكاً: هل يمكن للحب أن يتجاوز الحدود السياسية والثقافية، أم أن الوطن، بكل ما يحمله من أعباء، سيظل حاجزاً يفصل بين القلوب؟
وفي خضم هذا الصراع، تظهر شخصيات أخرى تضيف أبعاداً جديدة للنص. ليلى، صديقة طارق، تمثل الواقع المغربي بكل تعقيداته، بكل جراحه وأمله المختبئ خلف ستار اليأس. هي الوطن الحقيقي، الملموس، المعاش، بكل ما فيه من تشوهات وقيود، لكنها أيضاً رمز للأمل الذي يقاوم الانهيار. من ناحية أخرى، تظهر شخصيات مثل خليل ونجيب كأصوات تعبر عن تردد الأجيال بين ماضٍ ثقيل ومستقبل غامض، حيث الوطن يتحول إلى قوة قمعية تبتلع أحلام أبنائه تحت شعارات الانتماء الكاذبة. هذه الشخصيات، رغم أن بعضها قد يبدو هامشياً أحياناً، تشكل معاً نسيجاً إنسانياً معقداً يعكس تنوع التجارب البشرية في مواجهة فكرة الوطن.
ما يميز هذا العمل هو قدرته على الغوص في أعماق الفلسفة والرمزية، حيث يتحول السرد إلى تأملات وجودية حول معنى الوجود والانتماء. "الموت الجميل" الذي يتوق إليه طارق في فلسطين ليس مجرد رغبة في الشهادة، بل هو هروب من فراغ الهوية، بحث عن معنى في عالم يفتقر إلى المعاني. الرحيل والعودة، اللذان يتكرران في حياة طارق، يصبحان رمزاً لدورة لا نهائية من البحث عن الذات، عن وطن داخلي لا يخضع لقوانين الجغرافيا. في هذا السياق، يبرز الضفري كروائي يمتلك القدرة على تحويل الأحداث البسيطة إلى استعارات معقدة، حيث الحب، الفقدان، والنضال تصبح مداخل لفهم العلاقة المعقدة بين الإنسان ومكانه في العالم.
على مستوى الأسلوب، يتألق النص بلغة غنية بالصور الشاعرية والتأملات الفلسفية، حيث تتدفق الجمل كأنها نهر يحمل القارئ عبر مناظر نفسية وعاطفية متباينة. الحوارات الداخلية لطارق، المشبعة بالتساؤلات الوجودية، تضفي على الرواية عمقاً وجدانياً يجعلها جزءاً من الأدب العربي الذي يتجاوز الحدود المحلية ليخاطب الإنسانية جمعاء. ومع ذلك، لا يخلو النص من بعض التحديات، حيث تظهر بعض المشاهد العاطفية، خاصة تلك التي تجمع طارق بزهرة، مبالغاً فيها درامياً، مما قد يشتت القارئ ويضعف من تماسك الفكرة الرمزية التي يسعى النص إلى تقديمها. كذلك، قد تبدو بعض الشخصيات الثانوية، مثل وفاء ومروان، أقل عمقاً، وكأنها موجودة لمجرد ملء الفراغات في السرد، مما يقلل أحياناً من قوة الرسالة المركزية للرواية.
ومع ذلك، تظل "الوطن ليس هنا" عملاً أدبياً استثنائياً يتحدى التصنيفات السهلة. إنها رواية لا تسعى إلى تقديم حلول، بل إلى فتح الأبواب أمام التساؤلات. إنها دعوة للقارئ كي يواجه مخاوفه الخاصة، كي يتأمل في معنى الانتماء في عالم تتغير فيه الحدود باستمرار، سواء كانت حدوداً جغرافية أو نفسية. الوطن، كما تقترح الرواية، ليس مكاناً نجده، بل تجربة نعيشها، مزيج من الحنين والرفض، الفقدان والبحث، الأمل واليأس. إنه ذلك الفضاء الضبابي الذي نتحرك فيه بين الهروب والعودة، بين الحلم بموطن مثالي والإدراك بأن الوطن قد يكون، في النهاية، مجرد لحظة عابرة من السلام الداخلي.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.